الثلاثاء، 19 فبراير 2019

الامثال الشعبية ميراث انساني مشترك يختزل خبرات الحياة

 حقا اننا نعيش معطيات  مجتمع ما بعد الحداثة عبر فضاء تكنولوجي واسع الافاق وثورة اتصالات غيرت كثير من المفاهيم الاجتماعية والثقافية وجمعت بين ثقافات الشرق والغرب في لحظة كونية ممتدة عبر الاثير، فبضغطت زر واحدة على هاتفك المحمول قد تتواصل مع العديد من الاشخاص في العالم ومن مختلف الثقافات لكي تتبادل الرؤى وكل ماهو مشترك انساني.

ورغم هذه الحقيقة، فان ذواتنا الحضارية والمخزون الثقافي لكل واحد منا قد يطل برأسه في هذه اللقاءات الالكترونية، فالانسان عبارة عن مخزن للمعارف والعلوم والثقافة المتوراثة خاصة الثقافة الشعبية وعلى رأسها الامثال الشعبية التي نتشربها من أهالينا ومن مجتمعنا كما نشرب كأس الحليب كل صباح، خاصة وانها وسيلة لتعليم دروس فن الحياة بشكل حكيم وايضا مرح، وكما تتنازع مضامين الامثال بين الحث على الفضيلة ونبذ الرذيلة، فانها تسخدم اساليب متنوعة بين الجد والسخرية لتوصيل هذه المضامين لمتلقيها.
ولاغرابة ان نجدنا مصبوغين ومختومين بختم الامثال الشعبية لانها ببساطة تجري منا مجرى الدم في العروق عبر تداولها عبر الاجيال والحقب الزمنية باعتبارها مرآة تعكس عاداتنا وتقاليدنا وافكارنا وقيمنا الاخلاقية والدينية ورؤانا الاقتصادية والسياسية والفكرية والفنية، على ذلك يمكن اعتبار المثل فلسفة شعبية لمنظومة حياتنا.  
فالأمثال الشعبية تمثل خلاصة خبرات الشعوب وحضاراتها وثقافتها ومنجزات عقلها الجمعي قديما وحديثا ايضا بما تحتويه من حكمة الايام والخبرات الانسانية طوال عقود، ولعل ما يبقيها على قيد الحياة هو ما تملكه من خصائص فنيه كالايجاز والايقاع الموسيقي مما يسهل حفظها وتناقلها، ولذلك قال ابن المقفع: "إذا جعل الكلام مثلاً كان أوضح للمنطق وآنق للسمع وأوسع لشعوب".
 
المثل لغة واصطلاحا
المثل  في اللغة هو النظير والشبيه، كما تقول شَبهه، وشِبهه. واصطلاحا، فان  الأمثال هي العبارة الفنية السائرة الموجزة التي تضاع لتصوير موقفا أو حادثة ولتستخلص خبرة إنسانية يمكن استعادتها في حلة أخرى مشابهة لها مثل:" رب ساع لقاعد" و " ورجع بخفي حنين" و"الكلام لك واسمعي يا جارة".
كما يعرف المثل بأنه جملة قيلت في مناسبة خاصة، ثم صارت - لما فيها من حكمة - تذكر في كل مناسبة مشابهة، ويشترط  فيها الإيجاز وحسن التشبيه وإصابة المعنى وحسن الكناية.
وتنطلق الامثال الشعبية  من بيئة وفكر الجماعة الانسانية في اي مجتمع من المجتمعات البشرية لتعكس ببساطة موجزة وموحية نظرتهم للحياة، وهي نظرة مستقاة من واقع خبرتهم بها ومعايشتهم لها كواقع يومي مجرب مما يضفي عليها طابع الحكمة والديمومة، ولان خبرات الناس تنبع من واقع حياتهم وبيئاتهم، فان امثالهم تعكس طبيعة هذه البيئات المتنوعة، فأبناء البيئة الساحلية تصطبغ بصبغة بحياة البحر من مد وجزر وصيد وسفن وامواج عتية وسماء صافية ومعاني الاغتراب خلال رحلة البحث عن الرزق.
وتعكس الامثال الشعبية المستقاة من البيئة الزراعية قيم الاستقرار والتعاون ومن ثم التفاؤل بالمستقبل حينما يأتي وقت الحصاد بالخير الوفير "من زرع حصد "، بينما تعبر الامثال الصادرة عن البيئة الصحراوية قيم ومعاني الترحال بحثا عن العشب والماء وما يستتبعه من حاجة ملحة للصبر والتحمل.
 
خصوصية المثل
يتمتع المثل الشعبي  بالعفوية عبر استخدام لغة العامة السنة العامة وينفرد بابتعاده عن الرقابة وعدم معرفة قائله، كما ان ينطلق من تجربة وقصةانسانية فردية لكن مع تكرارها مع افراد أخرين يحولها لتجربة جمعية يشترك الكثير من الناس في معايشتها بحلوها ومرها مما يضفي عليها طابع انساني مشترك مثل "الحب اعمي".
ويستسيغ الناس المثل بكل سهولة لما يحتويه من بلاغة نافذة عبر عنها أبو اسحق النظام بقوله: " يجتمع في المثل أربعة لا تجتمع في غيره من الكلام: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، وجودة الكتابة، فهو نهاية البلاغة.
 
الحكمة والمثل
تتشابه المثل والحكمة في كثير من الاحيان بسبب التقائهما في السرد والايجاز والسهولة والخبرة الانسانية، ومع ذلك فانهما يختلفان في الهدف والمصدر كما يقول الباحثون المتخصصون.
فالحكمة تعبر عن تجربة خاصّة يولّدها العقل بعد تحليلها؛ ليصل بعدد التحليل لحكمة يستفيد بها في حياته ويفيد غيره من خبرته، وقد عبر الخالق العظيم عن الحكمة بقوله تعالى "ومن اوتي الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا" فالحكمة ليست متاحة لأي شخص الا اذا كان عقلانيا حكيما. وقد عرفت الانسانية الكثير من الحكماء والحكم ومن امثلتها حكمة صينية لا انساها ما حييت وهي " من يعرف اكثر يغفر أكثر "، وفي عالمنا العربي جرت الحكمة مصبوغة بالشعر كما في أبيات المتنبّي: "إذا غامرت في شرفٍ مروم فلا تقنع بما دون النّجومِ.. فطعم الموت في أمرٍ حقير كطعم الموت في أمرٍ عظيم.
أما المثل فيكون نتاج لموقفٍ لحظيّ يُقال فيه قولاً فيصبح مثلاً، ولكنه قد يتقارب مع الحكمة إذا نتج عن تجربة مثل " لكل حيٍّ أجل، بعضُ الحُلُمِ ذلُ، يد واحدة لا تحمل بطّيختين، لن يصغي إليك أحدٌ حتّى تقول شيئاً خاطئاً ".
 
التقاءالامثال عالميا
من متابعتي لبعض الامثال العالمية وجدت ان الكثير منها يتشابه في  مضمونه وخبراته الانسانية بالامثال العربية، وهو ما يؤكد حقيقة ان الخبرة الانسانية المشتركة تتواصل بين الشعوب وتتجاوز حواجز المكان. وهناك الكثير من الامثال التي خرجت من البيئات الشرقية والغربية لكنها تعبر محتوى انساني  جلعها تنتشر في مكل مكان من ارض المعمورة، ومنها مجموعة الأمثال العالمية التي تدعو لاغتنام الفرصة مثل: (اطرق الحديد وهو ساخن)، و(اصنع كوخك والشمس ساطعة) وغيرها.
وكذلك تتشابك الامثال في المنطقة العربية، وتبعد عن القطرية بانتشارها الجغرافي في الميحط العربي كله مما يصبغ عليه صبغة انسانية مشتركة ومن ذلك العديد من الامثلة التي خرجت من البيئة الشعبية اللبنانية ولكنها عرفت طريقها لكل الشعوب العربية فصارت ملكا للجميع ومن ذلك: " آخر الطحين كركعة " ، "الحائط الواطيء كل واحد بيقفز عليه" ، و" ضربني وبكى وسبقني واشتكى " ، " اليد الواحدة لا تصفق... وغيرها.
ومن نماذج الامثلة الاجتماعية التي تعكس الخبرة البشرية المثل السويسري " من هز بيت جاره.. سقط بيته " وقد يقترب معها في المعنى المثل الشعبي العربي "اللي بيته من ازاز ما يحدفش الناس بالطوب " ، والمثل الايطالي " قناعتك نصف سعادتك " يلتقي في مضمونة بالمثل " القناعة كنز لا يفني ".
وكذلك المثل البولندي " فعل الخير مع ناكر الجميل مثل إلقاء ماء الورد في البحر" تقابلها بيت زهير بن أبي سلمى حكيم شعراء العرب " ومن يصنع المعروف في غيره اهله يكن حمده ذما عليه ويندم ".
اما المثل الفرنسي " إذا أردت أن تعرف رقي أمة فانظر إلى نسائها " يقابلها أمثولة الشاعر حافظ ابراهيم " الأم مدرسة ان أعددتها أعدت شعب طيب الاعراق"، والمثل الامريكي " كثيرا ما نرى الاشياء على غير حقيقتها لأننا نكتفي بقراءة العنوان"، والمثل الصيني " سلح عقلك بالعلم خير من أن تزين جسدك بالجواهر" ، والمثل الروسي أخطاء الاخرين دائما أكثر لمعانا من أخطائنا، والمثل الانجليزي " كل امرئ يصنع قدره بنفسه"، والاسباني "الإعجاب بالنفس وليد الجهل"، والايرلندي " اعط حبك لأمرأتك، وسرك لوالدتك "، والمثل الهندي "عامل ابنك كأمير طوال خمس سنوات، وكعبد خلال عشر سنين، وكصديق بعد ذلك"، والمثل التشيكوسلوفاكي " علمني أهلي الكلام، وعلمني الناس الصمت "، والمثل البرتغالي "على الذين يعطون أن لا يتحدثوا عن عطائهم، أما الذين يأخذون فليذكروا ذلك "، كل هذه الامثال تتقارب على اختلاف جغرافيتها وحضارتها من كل انسان على ارض البسيطة.   
 
امتزاج الأنا والاخر
علاقة الأنا  بالاخر في ثقافتنا الشعبية  تبدو في بعض الاحيان علاقة امتزاج او تكامل او تقارب في ثقافتنا الشعبية التي تجسدها الامثال بشكل واضح، ولذلك كانت هذه العلاقات المتشابكة محل العديد من الدراسات المتخصصة في هذا المجال ومنها دراسة للباحث  سيد إسماعيل  في كتابه "الآخر.. في الثقافة الشعبية"  لاحظ فيها أن الشعوب التي كانت تعيش ضمن الدولة العثمانية لديها قدر من الأمثال المشتركة أو المتشابهة، كما هو الأمر لدى الأتراك والعرب والأكراد والألبان، وذلك نتيجة  الحياة المشتركة بينهم التي امتدت 400-500 سنة، ضمن الدولة الواحدة والثقافة الواحدة (الإسلامية)، ويبدو في الأمثال أو الحكم المنسوبة إلى (نصر الدين خوجة) أو (جحا).
وقد وجد بين الأمثال الشعبية الفارسية والألبانية ما هو متطابق أيضا مع الأمثال الشعبية العربية مثل: (بيخاف من خياله) و(اللي بيطلع الحمار لفوق بينزله)... ومن الأمثال المتشابهة بين الأمثال الشعبية الفارسية والألبانية (النجاة في نهاية الفنجان) و(اللص الماهر يطفئ المصباح أولا).
وهناك أمثالا متشابهة في المعنى ومختلفة في التعبير مثل المثل الفارسي "أحرق لحيته بنفسه"، والمثل الألباني "ذهب الجدي بنفسه إلى القصاب"، والمثل الفارسي "الإنسان يحتاج إلى العقل لا إلى القوة"، والمثل الألباني " ماذا يفيدك المال والقطيع إذا ليس لديك عقل؟"،  والمثل الشعبي الفارسي" القرد لا يصلح للحفر على الخشب" يقابله في الألبانية " لا تدع الذئب يحمي الغنم"... وغيره.
وتم رصد التشابه والتطابق في الامثال العربية والالبانية  في أول كتاب جامع للفولكلور الألباني (النحلة الألبانية- 1878م) الذي وضعه الباحث والشاعر ثيمي ميتكو (1820-1890) ثم صدر لاحقا "أمواج البحر- 1908م"  للباحث والشاعر سبيرو دينه (1848-1922).
وفي هذين المصدرين، وجدت بعض الأمثال الشعبية العربية والألبانية المتطابقة أو المتشابهة مثل: " ما تزرع تحصد"، و"زلة القدم ولا زلة اللسان" ، " لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد "،  و" العمل يدل على الإنسان"، و" لقت الطنجرة غطاها"،  و"الصديق الصالح يدل على الطريق الصالح"، و" يرى الشعرة في عين غيره ولا يرى الحطبة في عينه"، وعكست مثل هذه الامثال  دلالات ثقافية واجتماعيةوسياسية.
 
ضرورة الفرز
ورغم أهمية الامثال في حياتنا باعتبارها خبرةانسانية ضرورية للتواصل والاندماج الاجتماعي، الا ان بعضها يعبر عن مضامين تبعث على التشاؤوم او الانهزامية لدى بعض الشعوب التي وقعت تحت براثن الاحتلال، واخرى يدعو للتكاسل ويقلل من شأن الطموح والتطلع، وهو ما يتطلب منا ان نكون اكثر وعيا عند تلقي الامثال ويكون لدينا القدرة على فرز الغث من السمين منها.
ومن النماذج السلبية لهذه الامثال: "  اللي يباوع لفوق يتعب" و" اللي يبص لفوق توجعه رقبته"،  و" رايح فين يا زعلوك بين الملوك". فهذه النماذج اطلقت من قبل فئة اجتماعية عليا تحاول الحفاظ علي مكتسباتها وسلطاتها من ان تحاول الطبقات الدينا التطلع اليها والحلم بها.
وهذه النماذج السلبية للامثال الشعبية لابد وان نفرزها ونتخطاها ونأخذ بما ينفعنا ويبث فينا الامل للمستقبل ويدفعنا للعمل والنجاح والسلام والتعاون والرحمة.

الأحد، 10 فبراير 2019

سن تشريعات عراقية ضد الجرائم الالكترونية لا يقل اهمية عن محاربة الارهاب

 باتت الجرائم الالكترونية خطرا داهما يطال كل المجمعات البشرية بالكوارث السياسية والاقتصادية والاجتماعية وايضا الثقافية والدينية، فالهكرز موجودون في كل مكان يخترقون الحواسيب والهواتف الذكية اما للسطو على معلومات الشركات وابتزازها او الافراد للتشهير بهم سواء كانوا افرادا عاديين او ذوي واجهة اجتماعية ايضا للابتزاز المالي، ناهيك عن سرقة الحسابات البنكية والخروقات لتجنيد الفتيات والشباب وحتى الاطفال في الاعمال الارهابية بعمليات غسيل الادمغة وتغيير المفاهيم الثقافية والاجتماعية والدينية.

لذلك سارعت الكثير من بلدان العالم لسن تشريعات قانونية لمكافحة الجرائم الالكترونية ومنها العديد من البلاد العربية، لكن العراق يقف امام هذه المعركة الكونية مكتوفي الايدي وكانه خارج حسابات الزمن ولم يصدر حتى الان تشريعا قانونيا للتصدي لهذه الجرائم التي باتت تقوض امن وسلامة المجتمع العراقي من الداخل، ويكتفي بمعالجتها عبر قانون العقوبات العراقي وقانون مكافحة الارهاب.
وفي تقديري ان الحرب على الجرائم الالكترونية لا تقل أهمية ابدا عن خوض معارك تحرير العراق من الارهاب الداعشي وغيره، فالجرائم الالكترونية هي ارهاب ينشر سمومه افاعيه داخل كل مكان في العالم وخاصة العراق الذي يحاول لملمة جرحه النازف من الارهاب والانقسامات السياسية والمذهبية والفساد بكل انواعه.
وتتجلى خطورة الجرائم الالكترونية في انها تنفذ داخل كل غرفة من غرف البنات والاولاد والصغار والكبار على حد سواء خلال اتصاله بجهازه الحاسوبي او عبر هاتفه الذكي وهو يتعرض بشكل يومي لكوارث هذه الجرائم وهو غير محصن ضد سمومها بينما يعجز المشرع العراقي منذ عام 2011 وحتى اليوم عن اصدار تشريع قانوني تكون له القدرة على التقليل من نسب هذه الجرائم الالكترونية داخل المجتمع أسوة بسنه وتفعليه بمصر والاْردن و غيرها من البلدان المجاورة.
 
غياب تشريعي
وهنا يجري السؤال الجوهري لماذا هذا التباطؤ في اصدار مثل هذا التشريع؟ ولصالح من يقدم مشروع قانون جرائم المعلوماتية لمجلس النواب منذ عام 2011 ويظل قيد التشريع حتى يومنا هذا؟ فخلال هذه السنوات وقعت الاف الجرائم التي انتهكت الخصوصيات ودمرت الاسر العراقية، ومجلس النواب والحكومة في سبات عميق ويكتفون في عمليات مواجهة هذه الجرائم بقانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 الخاص بعقوبة لجرائم التشهير، وهي عمليا ليست كافية في عقوبتها لردع الجرائم الالكترونية التي توسع نطاقها عبر استغلال مواقع التواصل الاجتماعي.
لذلك، فانني لا افهم لماذا هذا التباطوء بسن هذا التشريع رغم اهمية خروجه الى النور امس قبل اليوم اللهم اذا كان هناك  تواطيء الكثير من الجهات التي اعتادت على استخدام الانترنت والشائعات في عملية التسقيط السياسي وحروب الأحزاب والشخصيات السياسية.
 
تدمير الاخلاق
ومن المنظور الاجتماعي نجد ان الجرائم الاليكترونية تنخر في قواعد قيمنا الاجتماعية والاخلاقية كالسوس مما أدى الى تدني المستوى الأخلاقي العام، والغريب في الامر ان السيدات هن الأكثر مشاركة في الاعتداءات الالكترونية، وهو ما يثير الدهشة والاستنكار في مجتمع عربي شرقي مسلم كالعراق اذا ما تم مقارنته مثلا بالسعودية التي لها اعتبارات دينية اخلاقيه في المجتمع او الاْردن البلد الوسطي الذي لا يحمل صبغة دينية سواء شيعية او سنية.
وبتزايد الزيارات الدينية والمظاهر الدينية في العراق نجد تزايد طردي بالانحدار في مستوى استخدام الألفاظ، وكباحثة وإعلامية متابعه لما يجري على الساحات فلم تترك هذه الآفات اَي شخص ولم تستثني احد واختلط الحابل بالنابل.
فقد تفاقمت انواع الاعتداءات بدبلجة الاخبار وتلفيق التهم تركيب الصور والفيديوهات ومن تكرار الامر يصبح بالامكان تصديقه، كما يقال المثل ـ كذب ثم كذب ثم كذب حتى تصدق انت كذبتك.
الطامة الكبرى في مثل هذه النوعية من الجرائم ان تفتت تماسك الاسرة الواحدة داخل المجتمع وتعمل على تشظيها وتدميرها، خاصة وان معظمها يستهدف النساء ومن ثم يتسبب في انفصال بين الأزواج امام ساحات القضاء. أما الفتيات يتكتمن أحوالهن حفاظا على سمعتهن من الضرر اذا قدمن شكاوهن  من جرائم الابتزازامام المحاكم.
فتورط البنات في العلاقات الاليكترونية مع الشباب أفضى الى وقوع كوارث اخلاقية واجتماعية، حيث باتت صورهن الشخصية مهددة بالنشر، مما يضطر الكثير منهن الى تقديم تنازلات مادية ومعنوية خوفا من الفضائح والتشهير بالسمعة.
 
جهود أمنية ولكن
 استفحال الجرائم الاليكترونية وتهديدها لسلامة المجتمع، دفع اجهزة وزارة الداخلية العراقية لاطلاق حملة "بتنه - تهمنه" العام الفائت  لنشر الوعي بين أوساط الشباب العراقي بمخاطر الدعاية والجرائم الإلكترونية، وخاصة  علميات التجنيد التي يقوم بها داعش لجذب الشباب.
وهذه الحملة تمثل جهدا مشكورا لوزارة الداخلية العراقية لأنها تفاعلت في حملتها هذه مع شباب المدراس والمعاهد والكليات لنشر الوعي في صفوفهم بضرورة تأمين حساباتهم الإلكترونية، وكيفية طلب المساعدة في حالة حدوث أي مشاكل. وتضافر مع اطلاق برنامج اذاعي للوزارة وعدد من الأفلام القصيرة لنشر الوعي من خطر التعرض للابتزاز خاصة بحق الفتيات الصغيرات ومحاولات استخدامهن في جرائم خطيرة مثل الإرهاب وتهريب المخدرات.
تبرز أهمية هذه الحملة التي تنفذها الداخلية العراقية، في انها قد كشفت عن أن الابتزاز الإلكتروني يستهدف بشكل أكبر الفئة العمرية من 15 إلى 26 سنة،  معظمهم من غير المتعلمين أو ممن يعيشون في أسر محافظة للغاية، وهذا يعني ان انتشار الجهل في صفوف هذه الضحايا كان سببا في زيادة وقوع هذه الجرائم.
ورغم ان ان الحكومة مسئولة عن حماية وسلامة وأمن مجتمعها وقصرت حتي اليوم في اصدار تشريع قانوني لمجابهة هذه الجرائم، فان المجتمع نفسه بكل مؤسساته الأسرية والثقافية والتربوية والدينية والمدنية  مقصر هو الاخر في القيام بمسئولياته في تقليص هذه الجرائم ووقف نزيفها وسرطانها المنتشر في البلاد.
فهناك غياب وعي ثقافي بمخاطر هذه الجرائم لدى الاسر العراقية التي تخلت عن دورها الرقابي في تنشئة شبابها، وربما يكون جهل بعض الاسر باستخدام شبكات التواصل الاجتماعي قد أدي الى غياب قدرتهم على مراقبة سلوك ابنائهم وبناتهن.
وهنا تبرز مسئولية مؤسسات المجتمع الاعلامية والثقافية والدينية في نشر الوعي داخل الاسر باستخدامات مواقع التواصل الاجتماعي وخطورته على السلامة الاجتماعية والاخلاقية لكل افراد الاسرة ومن ثم افراد المجتمع كله.
 
واقع مرير
واقع الامر يكشف ان المجتمع العراقي قد ضج وفاض به الكيل من كثرة وقوع هذه الجرائم اليومية، فلجأ الكثيرون الى ساحة القضاء لحمايتهم من الابتزاز المالي والاخلاقي اليومي الناتج عن هذه الجرائم.
مصداقا لذلك، هو ما تتلقاه المحاكم العراقية يوميا من دعاوى التهديد والابتزاز الالكتروني، ولعله مما يزيد الامر ألما هو ان معظم ضحايا هذا الابتزاز من الفتيات اللواتي تم اختراق حساباتهن علي مواقع التواصل الاجتماعي وجرى الحصول على صورهن الشخصية باستدراجهن.
وبحسب ما رصده قضاة التحقيق في مثل هذا الدعاوي، فان المجرم الاليكتروني يكره ضحيته على دفع مبالغ مالية أو تقديم تنازلات معنوية مقابل عدم نشر معلومات أو صور حصل عليها بقدرته على اختراق المواقع الالكترونية.
فالمجرم الاليكتروني غالبا ما يستدرج الضحية للحصول على بياناتها الخاصة عبر اقامته علاقات عاطفية معها لتبدأ فورا جريمة الابتزاز، وعلي ذلك فان المقابل المادي الذي يدفعه الضحية هو دافع رئيسي لارتكاب مثل هذه الجرائم التي لم يستثني منها أحد من عامة الناس او حتى الشخصيات العامة.
 
سن القوانين ونشر الوعي
ان استفحال خطر الجرائم المعلوماتية بالعراق يستدعي سرعة اصدرا تشريعي قانوني مغلظ العقوبات بحق مرتكبي هذه الجرائم، كما يستدعي تكاتف المؤسسات الرسمية والثقافية والتربوية والدينية للقيام بمسئولياته في حماية الاطفال والنشئ من الانجرار لسوء الاخلاق، وابراز الأحكام الدينية الإسلامية والمسيحيه واليهودية وتجريمها لهذه الافعال. فنحن نرى و نقرا امام اعيننا كيف يتم استخدام الانترنت من قبل المراهقين و للأسف الشديد احيانا نرى كبار السن يتعاملون مع الانترنت بمفهوم المراهقين الذين لم يحسنوا تربيتهم و تهذيبهم و اتعجب كل العجب من استخدام الألفاظ الغريبة جدا التي لم نسمعها بحياتنا و إنما نقراها على شكل بوستات و منشورات في صفحات الآخرين و نقرا انحدار الاخلاق من خلال قرائتنا لتعليقات اصدقائهم ايضا على منشوراتهم فهذا إنذار خطير يجعلنا نتسائل (الاخلاق الى اين) و نتذكر معلماتنا و الراهبات كيف كن نرتعب لو سمعنا لفظا نابيا وليس نطقنا به اما الان نجد السباب و اللعان و كأنها لغة مقبولة و متداولة و غير مستهجنة و الأمر و الأنكى و الاضل سبيلا ان معظمهم بنات و سيدات يعني امهات المستقبل و المربيات الفاضلات اللواتي من المفترض ان يتمتعن بقدر من الحياء لان الأنوثة ادب و حياء و ألفاظ نظيفة


و ان كنّا نتحدث عن التعامل و التعاطي مع احداث حصلت بالفعل ، فماذا عن الاخبار و المنشورات الملفقة جملة و تفصيلا بالتبلي و الافتراء فكيف سيكون او كيف كان التعامل مع تلك الاخبار المدبلجة و المركبة و الصور المزيفة و المدبلجة بلا رادع قانوني و لا ظبط اخلاقي او ديني او حتى تأنيب من البيت و الأهل و المجتمع حقا انه امر عجيب و كلنا يعلم ان تلك الحروب سياسية وحزبية و طائفية يتناول بها فلان نظيره او عدوه او حتى حليفه للتسقيط السياسي وهم لا يعلمون انهم اصبحوا فرجة سينمائية امام العالم الذي مازال بعض الشيء محتفظا بالعادات و الاخلاقيات و الحلال و الحرام
كلنا نعلم و نقدر ان الحروب و الثعلب و الآلام و الاحزان التي مر بها شعب العراق جعلت له المبررات لما ال اليه الان و لكن يجب ان لا نترك الأعذار ذريعة لمخطط تدمير العراق بأبنائه
فالعراق بلد العلم و العلماء و بلد يشهد له التاريخ بالعظمة فلنبق كما كنّا ان لم نستطيع التقدم اما التراجع فغير مقبول
اعرف ان الكثير لا يقبل النقد و كان الناقد عدو و لكن يجب ان يعلم الجميع ان من يحبك يتمنى الإصلاح بالنصح و التوجيه و من لا يحبك يتركك على ضلالك

وفي تقديري ان المؤسسات التربوية في المدارس والجامعات والمساجد والاحوزة العلمية يجب ان يكون لها دور اكبر في حربنا ضد الجرائم الاليكنرونية بنشر الوعي بمخاطرها وتوضيح الأبعاد السياسية لاستخدامها من الذباب الالكتروني، وشرح خطورة الكذب على سلامة الاسر والمجتمعات عبر نشره الاشاعات المضللة ونشر الخرافات بعيدا عن العلم والاخلاق. وفي تصوري اننا لن نستطيع تفعيل الدور التوعوي لمؤسساتنا التربوية والدينية والمجتمع المدني دون تدريب قيادات متخصصة علي فنون التواصل مع الجماهير والقدرة على توصيل المعلومات الصحيحة اليهم ونشر الوعي في صفوفهم.
وعلى الصعيد الامني فان وزارة الداخلية مطالبة بالتوسع في حملاتها التوعية في المدارس والجامعات، حاجتنا الى انشاء قسم بوليسي خاص مجهز باحدث الوسائل التكنولوجية تكون مهمته تلقي هذه الانواع من الجرائم الاليكترونية ومعالجتها اسوة بما اتبعته بعض الدول في العالم من حولنا.
وانشاء مثل هذا القسم يستدعي تدريب كوادر عراقية على التعامل مع تقنيات الحاسوب والانترنت وجرائمه.

الثلاثاء، 5 فبراير 2019

سارة السهيل: ‎المسيحيون العرب تاريخ وحقوق وتعايش ونضال مشترك

تجيئ احتفالات الكنيسة الكاثوليكية والبروتستانتية حول العالم بميلاد المسيح عليه السلام في الخامس والعشرين من ديسمبر كل عام لتكون فرصة للشعوب العربية بصفة خاصة  لكي تستعيد انسانيتها وتعيش تلاحم أديانها السماوية فيشارك مسلمو العالم العربي اخوانهم في الوطن والتاريخ والثقافة والانسانية الفرحة بقداس كنيسة المهد في بيت لحم بالضفة الغربية حيث ولد السيد المسيح عليه السلام.

‎ وهذا الاحتفال يعيش افراحه وتجلياته وانواره شعوب 39 دولة تعتنق المسيحية بوصفها اكبر ثاني الاديان اعتناقا في العالم من أصل 50 دولة ذات أغلبية مسلمة، كما يذكر تقرير معهد بيو.

‎فميلاد المسيح لدى المسلمين العرب يعد  مناسبة وفرحة برمز السلام والمحبة التي جاءت بها رسالته ، وما أحوج العالم الى نشر السلام والمحبة في مواجهة أساطين العداوة والبغضاء والارهاب.

‎وبالرغم من أن غالبية الكنائس والطوائف المسيحية تحتفل بميلاد المسيح نهار 25 ديسمبر، فإن بعضها الاخر يحتفل بالميلاد في نهار السابع من يناير، أو السادس منه، وهذا التعدد في ايام الاحتفالات  يعطينا فرصة لنواصل فرحتنا وتهنئة اخواننا المسيحين شركائنا في الارض والوطن والقيم بالاعياد.

‎فتهنئة من كل قلبي لكل مسيحي عربي او شرقي  بعيد الميلاد، وسيظل المسلمون يهنئون اخوانهم المسيحين باعياد الميلاد حتى قيام الساعة، خاصة وان علاقات الأخوة والمودة بينهما مستمر منذ اكثر من 14 قرنا، ساهم خلالها المسيحيون العرب في تشكيل الثقافة العربية عبر اعلامهم من الادباء والشعراء مثل  قس بن ساعدة الأيادي (أسقف نجران) وطرفة بن العبد وامرؤ القيس والنابغة الذبياني والأخطل التغلبي وعمرو بن كلثوم وأبو تمام الطائي والأعشى وأمية بن أبي الصلت وأكثم بن صيفي وورقة بن نوفل وعروة بن الورد.. وغيرهم

‎أدورا ريادية

‎لعب المسيحيون العرب دورا رياديا في النهضة العربية الحديثة عبر مؤلفاتهم المشرقة مثل كتاب جورج علاف “نهضة العرب”، وكتاب الأب لويس شيخو اليسوعي “تاريخ الآداب العربية”، قاموس “المنجد” الأب لويس معلوف عام 1908.

‎وكان خليل الخوري أول من أنشأ جريدة عربية في بلاد الشام عام 1858 تحت عنوان “حديقة الأخبار”.

‎ولذلك فان المسيحيين العرب بالنسبة لي جزء أصيل من تكويني الاخلاقي والفكري والثقافي، مثلي في ذلك مثل الكثيريين من المسلمين، وان كانت تجربتي اكثرخصوصية بحكم انني تلقيت تعليمي في مدرسة  للراهبات بالاردن.

‎ ويسجل التاريخ الحديث للمسيحين العرب دورهم الفاعل في بلورة الفكر القومي العربي الحديث بداء من جبران خليل جبران مرورا بميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي ونسيب عريضة وفوزي المعلوف ومي زيادة إلى أمين الريحاني والأخطل الصغير (بشارة الخوري) والشاعر القروي(رشيد سليم الخوري) وخليل مطران وأحمد فارس الشدياق ونجيب عازوري(مؤلف كتاب “يقظة الأمة العربية” باللغة الفرنسية عام 1905 وكان أول من رأى خطورة المشروع الصهيوني) وسلامة موسى ومارون عبود وخليل السكاكيني وصولاً إلى ادوارد سعيد… وغيرهم.

‎جذور حضارية

‎تضرب الديانة المسيحية بجذور عميقة في تربة الارض العربية، المسيحيين حقيقة اكدها تاريخ المنطقة العربية وحضارته والتجانس الثقافي بين سكانه، حيث ان المسيحييين قد سكنواالبلاد الممتدة من مصر إلى الشام وصاورا أصحاب هذه الأرض منذ أكثر من ألفي عام… وانتشرت المسيحية أول ما انتشرت في الصحراء العربية وحوران عندما قام بولس الرسول وهو في طريقه إلى دمشق بتبشير القبائل العربية الموجودة في المنطقة.

‎فالمسيحيون كانوا قبائل عربية عاشوا مئات السنين جنباً إلى جنب في شبه الجزيرة العربية في بلاد الحجاز ونجد واليمن وفي بلاد الشام (كما كانت تعرف في ذلك الوقت) ثم اعتنق قسم كبير منهم النصرانية عند نشأتها كالغساسنة في حوران وقاعدتهم “بصرى” والمناذرة في العراق وقاعدتهم “الحيرة” وبني بكر وتغلب وربيعة وبنو تميم ومضر وتنوخ وكانت هذه القبائل في غالبيتها مسيحية قبل الإسلام، حتى قيل: “لولا الإسلام لأكل بنو تغلب الناس”.

‎واعتنق الإسلام القسم الآخر عند ظهوره في القرن السابع ولكن التعايش المشترك استمر على حاله في هذه الارض العربية وتواصل عبر الأجيال ولم يغير ظهور هذه الأديان من نمط حياتهم ولم يغير من أساليب تعاملهم وتعايشهم المشترك وعلاقتهم مع بعضهم البعض.

‎نصرة وتعايش

‎كان لمسيحي العرب مواقف تاريخية مشرفة  في نصرة أبناء اوطانهم في مواجهة اي عدوان خارجي او مستعمر، ففي فجر الاسلام نصر المسيحيون الأوائل الرسول محمداً عندما قرر أهله محاربته وقتله.

‎كما رحب العرب المسيحيون بأبناء عمومتهم المسلمين وساعدوهم فى حربهم ضد الروم البيزنطيين في بلاد الشام والعراق. ولعب مسيحيو الشام دورا كبيرا في قيام دولة بني أمية، كما ساهموا بدور فاعل  في العصر الذهبي للثقافة العربية فنقلوا علوم اليونان وحكمتهم إلى العربية، واشتهر منهم اسحق بن حنين وابنه حنين وابن البطريق وقسطا بن لوقا وثابت بن قرة ويعقوب بن اسحق الكندي ويوحنا بن ماسويه وغيرهم.

‎وتسجل كتب التاريخ أيضا ان فتح المسلمين لمصر قد تم بفضل تعاون الأقباط معهم وعندما ضرب عمرو بن العاص قبطياً ذهب إلى المدينة ليشتكيه إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فأنصفه وأطلق جملته الشهيرة: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا “.

‎وأكرم سيدنا محمد صل الله عليه وسلم  وفد نصارى نجران عندما ذهب لزيارته، وصادف ذلك وقت عيد القيامة، فوفر لهم النبي الكريم مكاناً في المسجد النبوي ليقيموا فيه شعائرهم.

‎وعندما فتح الخليفة عمر بن الخطاب مدينة القدس اعتذر عن قبول دعوة المطران صفرونيوس له أن يصلي في كنيسة القيامة حتى لا يأتي مسلم من بعده ويحولها إلى مسجد بدعوي الخليفة صلى فيها.

‎وفي العراق، انضم المثنى ابن حارثة على رأس قبائل من نصارى بني شيبان لجيش المسلمين بقيادة سعد بن أبي وقاص لملاقاة الفرس عام 635 م في معركة القادسية ليتحقق لهم النصر علي الفرس، كما اشترك المسيحيون عام 655 م في معركة “ذات الصواري” البحرية مع المسلمين في مجابهتهم للأسطول البيزنطي.

‎وتواصلت نصرة المسيحين العرب وتعايشهم واندمامجهم مع اخوانهم المسلمين عبر التاريخ، فقد حارب المسيحيون العرب بجانب المسلمين ضد الغزاة الصليبيبن المقتحمين للقدس عام 1099 م. وعندما فتح صلاح الدين الأيوبي القدس رفض أن يدخلها بدون بطريرك القدس.

‎قومية واحدة

‎عندما تعرضت الدول العربية للاستعمار الغربي، فان المسيحيين العرب وقفوا موقفا مشرفا لمناهضته مع اخوانهم المسلمين من خلال الانتصار للقومية العربية البازغة وانضموا إلى ثورة سعد زغلول  في مصر، ويسجل التاريخ مقولة مكرم عبيد الزعيم الوفدي المسيحي المناهض للاحتلال الإنجليزي “نحن مسيحيون ديناً ومسلمون وطناً”. كما يحفظ التاريخ موقف البابا شنودة الثالث، بابا الأقباط حين حرم على أي قبطي الذهاب لزيارة القدس أو أية مدينة فلسطينية ما دامت تقع تحت الاحتلال الاسرائيلي.

‎واليوم يناضل مسيحيو العرب مع  نظرائهم لتحرير فلسطين من المغتصب الاسرائيلي.

‎واقع مؤلم

‎بالرغم من الجهد الكبير الذي بذله المسيحيون العرب في صنع الحضارة والثقافة العربية، ورغم انهم يعانون من ازمات طاحنة جعلت الكثير منهم يفر من موطنه بالارض العربية مهاجرا لشتى البلدان الغربية، فان اعداد المسيحيين العرب آخذة في التناقص.

‎وفيما يقدر مركز بيو للابحاث أعداد المسيحيين في العالم الإسلامي بين 139-144 مليون حسب؛ وبين 153 مليون إلى 230 مليون حسب إحصائيات اخرى، فان أعداد المسيحيين في مصر تتراوح بين 4-8 مليون، بينما يشكل مسيحيين أندونيسيا أكثر من 15% من مجمل مسيحيين العالم الإسلامي.

‎كان المسيحيون مطلع القرن العشرين يشكلون حوالي عشرين في المئة من سكان العالم العربي، وللأسف فان نسبتهم قد تراجعت الي خمسة في المئة فقط من نسب سكان العالم العربي.

‎فالحروب الطاحنةالتي تشهدها منطقتنا العربية، وبروز تيارات الاسلامي المتطرف وظهور الجماعات الارهابية مثل القاعدة وداعش قد جعل مسيحي الوطن العربي في مرمي نيران الارهاب مما دفع الكثيرين منهم للفرار والهجرة.

‎فقد عانى المسيحيون العرب في العراق وسوريا من ملاحقة تنظيم داعش الإرهابي، أما المسيحيون الأقباط في مصر الذين يشكلون أكبر مجتمع مسيحي في العالم العربي، فيعانون من عدم اعتراف مجتمعي حقيقي بهم، أما في لبنان البلد الوحيد الذي يشكل فيه المسيحيون الأغلبية منذ وقت طويل، فيجب أن يكون فيه رئيس البلاد وقائد الجيش مسيحيا.

‎وتشكل مصر أكبر تجمّع داخل الشرق الأوسط في حين يشكل لبنان التجمع الأعلى من حيث النسبة؛ هناك تواجد ملحوظ للمسيحيين في سوريا والأردن وفلسطين والعراق كما تضم بعض البلدان المجاورة مثل تركيا وإيران تجمعات من المسيحيين، كما يوجد أكثر من مليوني مسيحي في جنوب السودان، لكن لايحسب هؤلاء ضمن سكان الشرق الأوسط.

‎وكشف احدث تقرير صادر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام بالأردن 2018، عن أن عدد المسيحيين المقيمين في الدول العربية يتراجع بشكل يثير الكثير من المخاوف، وان الأراضي الفلسطينية، مهد المسيحية يتواجد بها 49 ألف مسيحي فقط، أي ما يعادل 1.2 بالمئة من إجمالي السكان. ويعيش نصف هؤلاء في محافظة بيت لحم، وفي مهد المسيح يعيش حوالي 6500 مسيحي فقط، بينما كان عدد المسيحيين في مدينة القدس بحسب إحصاء 1922 كان يساوي 3 أضعاف عددهم الآن.

‎أما في سوريا فلم يبق من المسيحيين العرب إلا 1.2 مليون مسيحي، وبحسب  قسطنطين دولغوف، مفوض الخارجية الروسية لشؤون حقوق الإنسان والديمقراطية وسيادة القانون، فان عدد المسيحيين في سوريا قد  انخفض منذ بداية النزاع المسلح عام 2011 هناك من 2.2 مليون إنسان إلى 1.2″. وكان عدد المسيحيين عام 1950 يقدر بحوالي 5 ملايين، حيث كانوا يشكلون نسبة 60 بالمئة من عدد السكان.

‎الازمة نفسها تكررت في العراق، فبعد أن كانت أعداد المسيحيين العراقيين تقدر بثلاثة ملايين في نهاية القرن العشرين صار عددهم في العراق اليوم لا يزيد عن نصف مليون، وإذا استمر فرارهم للنجاة بأنفسهم فإن الدراسات تتوقع نهاية وجودهم في العراق خلال السنوات العشر القادمة.

‎أما الأقباط الذين كانوا يشكلون 25 بالمئة من سكان مصر فقد أصبحوا الآن يشكلون أكثر من 10 بالمئة (حوالي 10 ملايين). وفي الأردن تشير الإحصائيات إلى أن عددهم حاليا يقارب المئتين وخمسين ألف نسمة فقط .

‎وفي لبنان، الذي كان المسيحيون فيه يشكلون أغلبية قبل نحو قرن من الزمان، تحول المسيحيون إلى أقلية، بسبب الهجرة إلى الخارج وارتفاع معدلات الإنجاب لدى المسلمين. والآن بات المسيحيون في لبنان يشكلون حوالي 30 أو 35 بالمئة من مجموع السكان.

‎كلمة حق

‎ان تقلص اعداد المسيحيبن العرب الي نسب تترواح ما بين 12 مليون الي 15 مليون فقط من أصل350 مليون عربي يدق ناقوس الخطرعلى مسقبل اوطاننا العربية التي قامت وتقوم في نهضتها وثقافتها على تكامل النسيج الوطني المسلم والمسيحي مما يلقي بظلال وخيمةعلى منظومة القيم الاخلاقية والحضارية في اوطاننا العربية.

‎تبدو الازمة أكثر تفاقما في خطورتها، اذا ما استمر تقلص اعداد المسيحين العرب الى  6ملايين فقط كما تتوقع الدراسات في عام 2025، وهذا يؤشر على خطورة بالغة، وهي الارض التي ولد بها السيد المسيح عليه السلام وعليها بلغ دعوته ونشر رسالة المحبة والسلام، قد تختفي منها المسيحية كديانه وثقافة وفكر وحضارة، وهذا يخالف سنن الله في الكون التي تقوم علي تجاور الاديان وتعايشها وتفاعل حضارتها.

‎وهنا يجب على القادة والحكام والمفكرين العرب، ان ينتبهوا لخطور تقلص المسيحية في ارضنا العربية، وهي مكون اصيل من مكونات حضارتنا العربية، وان يبذلوا جهدهم في الحفاظ على المسيحية واهلها العرب بتوفير فرص الامان والسلام والاستقرار والامان لهم، واتاحة الفرص لهم للمشاركة السياسية في تكوين الاحزاب وتفعيل الحياة المدنية والسياسية، ويقوموا بدورهم في بناء اقتصاد ونهضة اوطانهم العربية، باعتبارهم أصحاب ارض ووطن واصحاب حق في الحياة بكل امان في هذا الوطن الكبير.

‎حفظ الله اخواننا المسيحيين ، وحفظ المسيحية دينا وعقيدة وفكرا وحضارة .