تعاني مجتمعاتنا العربية في السنوات الاخيرة من غياب ملحوظ لوجود الأب داخل المؤسسة الاسرية، اما نتيجة الحروب والنزعات المشتعلة في المنطقة والتي حصدت أوراح الكثير من الرجال، او بسبب الطلاق الذي تزيد معدلاته بشكل سرطاني مخيف.
لاشك ان الاسرة يتوافر فيها مقومات الصحة النفسية من وجود الاب والام معا ورعايتهما للصغار يسهم بشكل ايجابي وكبير في التنشئة السليمة والتربية القويمة للأبناء خلال مراحل نموهم العقلي والنفسي والوجداني والاخلاقي.
وعند غياب احد اطراف معادلات الاسرة من اب او أم، فان ميزان التنشئة التربوية سوف يصيبه الخلل، خاصة وان توافر الابوين يشعر الصغار بالامان النفسي والثقة وتقدير الذات وكلها عوامل مهمة في التنشئة الاجتماعية الصحية.
ورغم اهمية وجود الام المعروف بحنانها وعطفتها الجياشة على الصغار، الا ان وجود الاب لاغنى عنه داخل المؤسسة الأسرية، فوجود الاب ضروري للصغار في عملية التقويم السلوكي والتربوي،وفي بعث مشاعر الطمأنينة والامان ويحد من شعور الطفل بالعدائية، بجانب ما يمثل الاب من قدوة يحتذيها الصغار ومن خلال توجيه الاب للأبناء عبر النصح والارشاد وتقويم الاخطاء يتشكل الضمير والمثل الاعلى لدى الطفل.
أما غياب الأب عن الطفل بشكل دائم، فانه ـ كما تؤكد الدراسات العلمية المتخصصة ـ يؤدي الى إعاقة فى النمو الفكرى والعقلى والجسمى، خاصة فى الفئة العمرية التى تتراوح ما بين الثانية والسادسة، يصعب على الطفل رؤية الحياة وفقاً لجنسه فى حال غياب الأب ، لذلك نجد الطفل المحروم من الأب أكثر حساسية فى مشاعره ويعاني من التردد في سلوكه والالتباس في تحديد دوره الذكوري او الأنثوي ، حيث يستمد الطفل الذكر صفات الذكورة من الأب فى ملبسه وطريقة كلامه ومعاملته للآخرين، بينما يساهم الأب فى تعميق شعور الفتاة بدورها الأنثوى، عن طريق معاملته المميزة لابنته عن إخوتها الذكور، مما يرسخ شعور الأنثى لديها ويدعم تقبلها لذاتها والنجاح في تحقيق التوافق النفسي والإجتماعي، ويعلمها الحياة و يضعها على طريق النجاح المهني كما يعلمها ما يجب أن يكون عليه سلوكها مع زوج المستقبل.
أثر الغياب
ويحدث غياب الاب بالطلاق أو بالوفاة شرخاً مؤلما فى نفسية الطفل يتواصل معه مدى الحياة، حيث يشعر الطفل أنه فقد أباه الذى يحبه بدون أى ذنب، وان أباه قد تخلى عنه مما يجعله ساخطا على الحياة وعلى والده نفسه الذى تخلى عنه.
ينشئ الطفل المفارق لابيه بالطلاق بمشاعر أكثر عدائية وانفعالاً وغضباً، بينما يصاب الطفل الفاقد لأبيه بالموت، بالانكسار والحزن الدائم ويميل إلى العزلة ويشعر بالنقص دائماً.
وتتعدد الآثار السلبية لغياب الأب لدى الأطفال، حسبما توصلت اليه الدراسات العلمية، حيث يؤثر حرمان الطفل من حنان أبيه وعطفه، في نموه ثقافته وشخصيته، ويعاني الطفل من انعدام التوازن العاطفي عند الطفل وتولد صراعات نفسية، كما يؤدي هذا الحرمان الى الاضطرابات السلوكية والجنوح، وضعف الثقة بالنفس وأقل التزاماً بالنظام، وقلة الانتباه والتركيز وضعف تحصيلهم الدراسي.
سن الخطورة
حدد بعض علماء النفس السن الخطرة في عمر الطفولة التي يؤثر غياب الاب عن الطفل بالسلب في الاثنتي عشرة سنة الأولى من عمره، حيث قام العديد من العلماء بإجراء دراسات ميدانية على مجموعات متنوعة من الأطفال ذوي الأب الغائب. أعطت العالمة الأمريكية سيرز، مجموعتين من الأطفال تتراوح أعمارهم بين 3- 5 سنوات عدداً من الدمى فكان الأطفال ذوو الأب الغائب أقل شجاعة وسلوكاً مغامراً من أولئك ذوي الأب الموجود، كما أبدوا سلوكاً ذكرياً واختاروا دمى ذكرية الصفات أقل من أقرانهم ذوي الأب المتواجد.
كوراث مستقبلية
ووجد العلماء ايضا ان الأطفال ذوي الأب الغائب أقل رغبة من المبادرة أو المغامرة وكانوا أكثر اعتماداً على غيرهم وأقل اندماجاً في الألعاب أو الرياضيات الجسمية.
وهكذا نجد ان الطفل المحروم من وجود الاب يحرم من فرص المباشرة لتنمية سلوكه الاجتماعي وصقله. وتشير دراسة علم النفس ـ في هذا الصددـ بأن الطفل ذا الأب الغائب، يواجه فعلياً صعوبة كبيرة في عملية تطور سلوكه الاجتماعي العام. وجد جولدستابين مثلاً أن أطفال هذا النوع أقل استقلالية وأضعف قدرة ذاتية على ضبط سلوكهم الفردي. وأضاف آخرون بأن غياب الأب كان سبباً في وجود مشاكل سلوكية وخلقية لدى بعض الأطفال, بحيث تميز سلوك هؤلاء العام بالفجاجة ( عدم النضج ) والعصبية والانحراف، وإن ثقتهم بغيرهم من الأطفال كانت غالباً متزعزعة أو ضعيفة ربما لتعودهم خلال غياب الأب أن يثقوا بالكبار من النساء دون الرجال.
والخلل النفسي للطفل فاقد ابيه، يفتقر الى القدرة على اكتساب مهارة التوقيت في الحياة اليومية في مقابل سرعة اكتسابه عادات عمل سيئة أو غير نظامية، بجانب وجود علاقة بين حالات غياب الأب وارتفاع نسبة ارتكاب السرقة أو الجريمة من قبل الأفراد في بعض المجتمعات العالمية.
ولاحظ فريق من الباحثين بأن غياب الأب قد يزيد من القلق النفسي والاضطراب العاطفي لدى الأطفال كما أن هناك ارتباطاً بينه وبين بعض حالات الانتحار والشعور بخيبة الأمل بوجه عام.
الام ومسئولية التعويض
لاشئ يمكنه تعويض غياب الاب، ولكن يمكن التخفيف من أثاره نسبيا من خلال الدور الكبير التي تقوم به الام في تعويض النقص الذي يصيب الابناء بغياب ابيهم، وذلك عبر ذكائها في تقديم نموذج بديل للاب ممثلا في الجد او الخال وأحد الاقارب الذي يرتاح اليه الطفل.
كما ان ملازمة الام للصغير تحقق قدرا من الامان اللازم لتعويض الاب شروطة ان يمتزج حنان الام وعطفها بالحزم في المواقف والقيم الاخلاقية الثابتة التي يتربى عليها الطفل لتنشئته اخلاقيا واجتماعيا بشكل صحي وسليم.
فدور الام هنا يبدو مهما في التعويض عن الاب الغائب، ولذلك اوصانا رسول الله صل الله عليه وسلم بذلك قائلا في حديث شريف له: "المرأة أحق بولدها مالم تتزوج"، وقد ثبت أن الطفل الملتصق بأمه يكون نموه الجسمي والعقلي والنفسي أسرع من غيره الذي لايجد ملازمة امه.
ويمكن للمؤسسات التعليمية والدينية من مساجد وكنائس وفرق الكشافة ان تقدم اشكالا من الرعاية النفسية والتربوية والصحية للطفل فاقد أبيه. ولكن يبقى عامل مهم في تجنيب صغارنا ويلات الازمة النفسية، ويقع على عاتق الاب والام معا من خلال تخليهما عن العناد والكبر وتجاوز الانانية، بتجنب الطلاق واقامة حوار دائم لحل المشكلا ت بينهما لحماية الكيان الاسري من التفكك والانهيار والحفاظ على السلامة النفسية والاجتماعية للصغار من ان يتحولوا الى قنابل نفسية موقوتة تنفجر في وجه المجتمع في اية لحطة.