تجيئ احتفالات الكنيسة الكاثوليكية والبروتستانتية حول العالم بميلاد المسيح عليه السلام في الخامس والعشرين من ديسمبر كل عام لتكون فرصة للشعوب العربية بصفة خاصة لكي تستعيد انسانيتها وتعيش تلاحم أديانها السماوية فيشارك مسلمو العالم العربي اخوانهم في الوطن والتاريخ والثقافة والانسانية الفرحة بقداس كنيسة المهد في بيت لحم بالضفة الغربية حيث ولد السيد المسيح عليه السلام.
وهذا الاحتفال يعيش افراحه وتجلياته وانواره شعوب 39 دولة تعتنق المسيحية بوصفها اكبر ثاني الاديان اعتناقا في العالم من أصل 50 دولة ذات أغلبية مسلمة، كما يذكر تقرير معهد بيو.
فميلاد المسيح لدى المسلمين العرب يعد مناسبة وفرحة برمز السلام والمحبة التي جاءت بها رسالته ، وما أحوج العالم الى نشر السلام والمحبة في مواجهة أساطين العداوة والبغضاء والارهاب.
وبالرغم من أن غالبية الكنائس والطوائف المسيحية تحتفل بميلاد المسيح نهار 25 ديسمبر، فإن بعضها الاخر يحتفل بالميلاد في نهار السابع من يناير، أو السادس منه، وهذا التعدد في ايام الاحتفالات يعطينا فرصة لنواصل فرحتنا وتهنئة اخواننا المسيحين شركائنا في الارض والوطن والقيم بالاعياد.
فتهنئة من كل قلبي لكل مسيحي عربي او شرقي بعيد الميلاد، وسيظل المسلمون يهنئون اخوانهم المسيحين باعياد الميلاد حتى قيام الساعة، خاصة وان علاقات الأخوة والمودة بينهما مستمر منذ اكثر من 14 قرنا، ساهم خلالها المسيحيون العرب في تشكيل الثقافة العربية عبر اعلامهم من الادباء والشعراء مثل قس بن ساعدة الأيادي (أسقف نجران) وطرفة بن العبد وامرؤ القيس والنابغة الذبياني والأخطل التغلبي وعمرو بن كلثوم وأبو تمام الطائي والأعشى وأمية بن أبي الصلت وأكثم بن صيفي وورقة بن نوفل وعروة بن الورد.. وغيرهم
أدورا ريادية
لعب المسيحيون العرب دورا رياديا في النهضة العربية الحديثة عبر مؤلفاتهم المشرقة مثل كتاب جورج علاف “نهضة العرب”، وكتاب الأب لويس شيخو اليسوعي “تاريخ الآداب العربية”، قاموس “المنجد” الأب لويس معلوف عام 1908.
وكان خليل الخوري أول من أنشأ جريدة عربية في بلاد الشام عام 1858 تحت عنوان “حديقة الأخبار”.
ولذلك فان المسيحيين العرب بالنسبة لي جزء أصيل من تكويني الاخلاقي والفكري والثقافي، مثلي في ذلك مثل الكثيريين من المسلمين، وان كانت تجربتي اكثرخصوصية بحكم انني تلقيت تعليمي في مدرسة للراهبات بالاردن.
ويسجل التاريخ الحديث للمسيحين العرب دورهم الفاعل في بلورة الفكر القومي العربي الحديث بداء من جبران خليل جبران مرورا بميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي ونسيب عريضة وفوزي المعلوف ومي زيادة إلى أمين الريحاني والأخطل الصغير (بشارة الخوري) والشاعر القروي(رشيد سليم الخوري) وخليل مطران وأحمد فارس الشدياق ونجيب عازوري(مؤلف كتاب “يقظة الأمة العربية” باللغة الفرنسية عام 1905 وكان أول من رأى خطورة المشروع الصهيوني) وسلامة موسى ومارون عبود وخليل السكاكيني وصولاً إلى ادوارد سعيد… وغيرهم.
جذور حضارية
تضرب الديانة المسيحية بجذور عميقة في تربة الارض العربية، المسيحيين حقيقة اكدها تاريخ المنطقة العربية وحضارته والتجانس الثقافي بين سكانه، حيث ان المسيحييين قد سكنواالبلاد الممتدة من مصر إلى الشام وصاورا أصحاب هذه الأرض منذ أكثر من ألفي عام… وانتشرت المسيحية أول ما انتشرت في الصحراء العربية وحوران عندما قام بولس الرسول وهو في طريقه إلى دمشق بتبشير القبائل العربية الموجودة في المنطقة.
فالمسيحيون كانوا قبائل عربية عاشوا مئات السنين جنباً إلى جنب في شبه الجزيرة العربية في بلاد الحجاز ونجد واليمن وفي بلاد الشام (كما كانت تعرف في ذلك الوقت) ثم اعتنق قسم كبير منهم النصرانية عند نشأتها كالغساسنة في حوران وقاعدتهم “بصرى” والمناذرة في العراق وقاعدتهم “الحيرة” وبني بكر وتغلب وربيعة وبنو تميم ومضر وتنوخ وكانت هذه القبائل في غالبيتها مسيحية قبل الإسلام، حتى قيل: “لولا الإسلام لأكل بنو تغلب الناس”.
واعتنق الإسلام القسم الآخر عند ظهوره في القرن السابع ولكن التعايش المشترك استمر على حاله في هذه الارض العربية وتواصل عبر الأجيال ولم يغير ظهور هذه الأديان من نمط حياتهم ولم يغير من أساليب تعاملهم وتعايشهم المشترك وعلاقتهم مع بعضهم البعض.
نصرة وتعايش
كان لمسيحي العرب مواقف تاريخية مشرفة في نصرة أبناء اوطانهم في مواجهة اي عدوان خارجي او مستعمر، ففي فجر الاسلام نصر المسيحيون الأوائل الرسول محمداً عندما قرر أهله محاربته وقتله.
كما رحب العرب المسيحيون بأبناء عمومتهم المسلمين وساعدوهم فى حربهم ضد الروم البيزنطيين في بلاد الشام والعراق. ولعب مسيحيو الشام دورا كبيرا في قيام دولة بني أمية، كما ساهموا بدور فاعل في العصر الذهبي للثقافة العربية فنقلوا علوم اليونان وحكمتهم إلى العربية، واشتهر منهم اسحق بن حنين وابنه حنين وابن البطريق وقسطا بن لوقا وثابت بن قرة ويعقوب بن اسحق الكندي ويوحنا بن ماسويه وغيرهم.
وتسجل كتب التاريخ أيضا ان فتح المسلمين لمصر قد تم بفضل تعاون الأقباط معهم وعندما ضرب عمرو بن العاص قبطياً ذهب إلى المدينة ليشتكيه إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فأنصفه وأطلق جملته الشهيرة: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا “.
وأكرم سيدنا محمد صل الله عليه وسلم وفد نصارى نجران عندما ذهب لزيارته، وصادف ذلك وقت عيد القيامة، فوفر لهم النبي الكريم مكاناً في المسجد النبوي ليقيموا فيه شعائرهم.
وعندما فتح الخليفة عمر بن الخطاب مدينة القدس اعتذر عن قبول دعوة المطران صفرونيوس له أن يصلي في كنيسة القيامة حتى لا يأتي مسلم من بعده ويحولها إلى مسجد بدعوي الخليفة صلى فيها.
وفي العراق، انضم المثنى ابن حارثة على رأس قبائل من نصارى بني شيبان لجيش المسلمين بقيادة سعد بن أبي وقاص لملاقاة الفرس عام 635 م في معركة القادسية ليتحقق لهم النصر علي الفرس، كما اشترك المسيحيون عام 655 م في معركة “ذات الصواري” البحرية مع المسلمين في مجابهتهم للأسطول البيزنطي.
وتواصلت نصرة المسيحين العرب وتعايشهم واندمامجهم مع اخوانهم المسلمين عبر التاريخ، فقد حارب المسيحيون العرب بجانب المسلمين ضد الغزاة الصليبيبن المقتحمين للقدس عام 1099 م. وعندما فتح صلاح الدين الأيوبي القدس رفض أن يدخلها بدون بطريرك القدس.
قومية واحدة
عندما تعرضت الدول العربية للاستعمار الغربي، فان المسيحيين العرب وقفوا موقفا مشرفا لمناهضته مع اخوانهم المسلمين من خلال الانتصار للقومية العربية البازغة وانضموا إلى ثورة سعد زغلول في مصر، ويسجل التاريخ مقولة مكرم عبيد الزعيم الوفدي المسيحي المناهض للاحتلال الإنجليزي “نحن مسيحيون ديناً ومسلمون وطناً”. كما يحفظ التاريخ موقف البابا شنودة الثالث، بابا الأقباط حين حرم على أي قبطي الذهاب لزيارة القدس أو أية مدينة فلسطينية ما دامت تقع تحت الاحتلال الاسرائيلي.
واليوم يناضل مسيحيو العرب مع نظرائهم لتحرير فلسطين من المغتصب الاسرائيلي.
واقع مؤلم
بالرغم من الجهد الكبير الذي بذله المسيحيون العرب في صنع الحضارة والثقافة العربية، ورغم انهم يعانون من ازمات طاحنة جعلت الكثير منهم يفر من موطنه بالارض العربية مهاجرا لشتى البلدان الغربية، فان اعداد المسيحيين العرب آخذة في التناقص.
وفيما يقدر مركز بيو للابحاث أعداد المسيحيين في العالم الإسلامي بين 139-144 مليون حسب؛ وبين 153 مليون إلى 230 مليون حسب إحصائيات اخرى، فان أعداد المسيحيين في مصر تتراوح بين 4-8 مليون، بينما يشكل مسيحيين أندونيسيا أكثر من 15% من مجمل مسيحيين العالم الإسلامي.
كان المسيحيون مطلع القرن العشرين يشكلون حوالي عشرين في المئة من سكان العالم العربي، وللأسف فان نسبتهم قد تراجعت الي خمسة في المئة فقط من نسب سكان العالم العربي.
فالحروب الطاحنةالتي تشهدها منطقتنا العربية، وبروز تيارات الاسلامي المتطرف وظهور الجماعات الارهابية مثل القاعدة وداعش قد جعل مسيحي الوطن العربي في مرمي نيران الارهاب مما دفع الكثيرين منهم للفرار والهجرة.
فقد عانى المسيحيون العرب في العراق وسوريا من ملاحقة تنظيم داعش الإرهابي، أما المسيحيون الأقباط في مصر الذين يشكلون أكبر مجتمع مسيحي في العالم العربي، فيعانون من عدم اعتراف مجتمعي حقيقي بهم، أما في لبنان البلد الوحيد الذي يشكل فيه المسيحيون الأغلبية منذ وقت طويل، فيجب أن يكون فيه رئيس البلاد وقائد الجيش مسيحيا.
وتشكل مصر أكبر تجمّع داخل الشرق الأوسط في حين يشكل لبنان التجمع الأعلى من حيث النسبة؛ هناك تواجد ملحوظ للمسيحيين في سوريا والأردن وفلسطين والعراق كما تضم بعض البلدان المجاورة مثل تركيا وإيران تجمعات من المسيحيين، كما يوجد أكثر من مليوني مسيحي في جنوب السودان، لكن لايحسب هؤلاء ضمن سكان الشرق الأوسط.
وكشف احدث تقرير صادر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام بالأردن 2018، عن أن عدد المسيحيين المقيمين في الدول العربية يتراجع بشكل يثير الكثير من المخاوف، وان الأراضي الفلسطينية، مهد المسيحية يتواجد بها 49 ألف مسيحي فقط، أي ما يعادل 1.2 بالمئة من إجمالي السكان. ويعيش نصف هؤلاء في محافظة بيت لحم، وفي مهد المسيح يعيش حوالي 6500 مسيحي فقط، بينما كان عدد المسيحيين في مدينة القدس بحسب إحصاء 1922 كان يساوي 3 أضعاف عددهم الآن.
أما في سوريا فلم يبق من المسيحيين العرب إلا 1.2 مليون مسيحي، وبحسب قسطنطين دولغوف، مفوض الخارجية الروسية لشؤون حقوق الإنسان والديمقراطية وسيادة القانون، فان عدد المسيحيين في سوريا قد انخفض منذ بداية النزاع المسلح عام 2011 هناك من 2.2 مليون إنسان إلى 1.2″. وكان عدد المسيحيين عام 1950 يقدر بحوالي 5 ملايين، حيث كانوا يشكلون نسبة 60 بالمئة من عدد السكان.
الازمة نفسها تكررت في العراق، فبعد أن كانت أعداد المسيحيين العراقيين تقدر بثلاثة ملايين في نهاية القرن العشرين صار عددهم في العراق اليوم لا يزيد عن نصف مليون، وإذا استمر فرارهم للنجاة بأنفسهم فإن الدراسات تتوقع نهاية وجودهم في العراق خلال السنوات العشر القادمة.
أما الأقباط الذين كانوا يشكلون 25 بالمئة من سكان مصر فقد أصبحوا الآن يشكلون أكثر من 10 بالمئة (حوالي 10 ملايين). وفي الأردن تشير الإحصائيات إلى أن عددهم حاليا يقارب المئتين وخمسين ألف نسمة فقط .
وفي لبنان، الذي كان المسيحيون فيه يشكلون أغلبية قبل نحو قرن من الزمان، تحول المسيحيون إلى أقلية، بسبب الهجرة إلى الخارج وارتفاع معدلات الإنجاب لدى المسلمين. والآن بات المسيحيون في لبنان يشكلون حوالي 30 أو 35 بالمئة من مجموع السكان.
كلمة حق
ان تقلص اعداد المسيحيبن العرب الي نسب تترواح ما بين 12 مليون الي 15 مليون فقط من أصل350 مليون عربي يدق ناقوس الخطرعلى مسقبل اوطاننا العربية التي قامت وتقوم في نهضتها وثقافتها على تكامل النسيج الوطني المسلم والمسيحي مما يلقي بظلال وخيمةعلى منظومة القيم الاخلاقية والحضارية في اوطاننا العربية.
تبدو الازمة أكثر تفاقما في خطورتها، اذا ما استمر تقلص اعداد المسيحين العرب الى 6ملايين فقط كما تتوقع الدراسات في عام 2025، وهذا يؤشر على خطورة بالغة، وهي الارض التي ولد بها السيد المسيح عليه السلام وعليها بلغ دعوته ونشر رسالة المحبة والسلام، قد تختفي منها المسيحية كديانه وثقافة وفكر وحضارة، وهذا يخالف سنن الله في الكون التي تقوم علي تجاور الاديان وتعايشها وتفاعل حضارتها.
وهنا يجب على القادة والحكام والمفكرين العرب، ان ينتبهوا لخطور تقلص المسيحية في ارضنا العربية، وهي مكون اصيل من مكونات حضارتنا العربية، وان يبذلوا جهدهم في الحفاظ على المسيحية واهلها العرب بتوفير فرص الامان والسلام والاستقرار والامان لهم، واتاحة الفرص لهم للمشاركة السياسية في تكوين الاحزاب وتفعيل الحياة المدنية والسياسية، ويقوموا بدورهم في بناء اقتصاد ونهضة اوطانهم العربية، باعتبارهم أصحاب ارض ووطن واصحاب حق في الحياة بكل امان في هذا الوطن الكبير.
حفظ الله اخواننا المسيحيين ، وحفظ المسيحية دينا وعقيدة وفكرا وحضارة .