الإعلام و التشويش
مقال للكاتبة سارة طالب السهيل
عندما نقلّب بين قنوات الفضائيات أو بين أوراق الصحف أو المواقع الإلكترونية نجد الدسِم و الخفيف. الجيد و السيئ الوطني و المدسوس فبدأنا نميز و نختار بينهم بعدما غربلت الظروف التي تشهدها بلادنا هذه المنابر بمواقفها الوطنية أو اللأوطنية.
فمنذ خمسة عشر عاماً استطاع الإعلام الخاص بأوعيته المقروءة والمسموعة ان يجذب إلىه الجماهير العربية بما استخدمه من جرأة في الطرح وكشف المسكوت عنه في فضاءات الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية بينما بقي الإعلام الرسمي فاقداً لهذه الجرأة لكنه حافظ على منظومة القيم الأخلاقية والحضارية التي تربت علىها الاجيال قديماً.
ومع تطور الإعلام الخاص وتقنياته العإلىة فرض حضوراً طاغياً في المعالجات الإعلامية منذ الغزو الامريكي للعراق وتواصله مع ثورات الربيع العربي لكنه في المقابل لم يهتم سوى بجانب الاثارة التي تجذب الجماهير ومن ثم تجذب المعلنين، ولأن سلاح الإعلام أشد فتكاً من قاذفات القنابل، فان بعض وسائل الإعلام الخاص تم استخدامها في تفكيك الشعوب وتذكية الفتن الطائفية عبر عمليات غسل العقول مثلما حدث في العراق وسوريا وإلىمن وليبيا، والله يستر على باقي الدول العربية.
أخيراً انتبه بعض الساسة لمخاطر الإعلام الخاص بعد ان ثبتت أضراره على الأمن القومي العربي، وما يحدثه من فرقة بين الشعوب العربية وهدم للهوية وللروح الحضارية، ولكن يقظة الساسة العرب جاءت متأخرة جداً لان بعض وسائل الإعلام الخاص نجح خلال ما يقرب من خمسة عشرعاما في صناعة أجيال من الشباب تعاني خللاً في منظومتها الفكرية والأخلاقية بعد أن نشأت على أفكار هذا النوع من الإعلام الذي قلب موازين القيم الأنسانية والدينية المتعارف علىها فجعل عبرالأفلام والمسلسلات الدرامية من السرقة والسطو بطولة، وحول النصب ذكاء، وقدم مفهوم بر الوالدين على أنه ذل، ويقدم الميثاق الغليظ كالزواج باعتباره رق واستعباد.
وأصابت بعض وسائل الإعلام الخاص المجتمعات العربية بأمراض مستعصية بتحويل طاقات الشباب إلى طاقات مهدرة وأناس كسالى عبر برامج استنزفت أوقاتهم وعملت على إلهائهم عن النبوغ العلمي والفكري ببرامج هابطة، ومسابقات خأوية ثقافياً، و الأنكى من ذلك انها غرست في عقولهم ووجدانهم الحاجات المادية وأماتت الجوانب الروحية فتحولوا إلى مستهلكين غير فاعلىن ولا منتجين في مجتمعاتهم .
المتفرج!
الساسة العرب والعلماء المنتخصصين والمجتمع وقفوا حيال قدرات الإعلام الخاص في سلب الشباب موقف المتفرج لسنوات طويلة وهو يترك الشباب فريسة سهلة للأفلام الهابطة والأغاني التي أفسدت الذوق العام تعرضها هذه الفضائيات دون رقيب أو حسيب ليشاهد الاعمال الفنية التي تلعب على وتر إثارة الغرائز ونشر الرذيلة والعلاقات المريضة، والترويج لإدمان الخمور وتعاطي المخدرات.
لم يخجل أصحاب هذه الوسائل الإعلامية يوما من تقديم البرامج اللاأخلاقية التي تهدم الكيانات الأسرية مثل برامج تدريس الأطفال مواضيع أكبر من أعمارهم و توعيتهم على مواضيع لا تعني مرحلتهم العمرية بالإضافة الى برامج تتكلم عن ظاهرة المثليين، أو صورة الام التي تركت أبناءها لتلحق بمن تحب، أو صورة الأب المدمن الذي لا يتورع عن العلاقات المحرمة أو المريضة في داخل الأسرة أو خارجها وغيره الكثير.
واستمراراً في ضرب الشخصية العربية بالصميم وهدم هويتها الأخلاقية فان هذه تواصل سمومها بإعلانات بعض المنتجات التي لا تناسب عرضها على الشاشات، ونشر برامج الخرافات والشعوذة مثل برامج فك السحر وطرد العفاريت، وجلب الحبيب وغيرها.
أما العنف فحدّث عنه ولا حرج، حيث تتبارى أدوات الإعلام الخاص في بث كل مواد العنف من أفلام ومسلسلات أو حوادث الارهاب التي تقع في العالم شرقاً وغرباً، لتغرس بذلك مشاهد العنف والقتل و إراقة الدماء في نفوس الأجيال الناشئة على انها ثقافة يومية وليست جرائم تهدم المجتمع .
بينما تحفل البرامج السياسية في الإعلام الخاص بنشر أنواع العنف اللفظي الذي يتجأوز الادب إلى القذف والسب والشتم ين الضيوف المتحأورين خادشين بذلك حياء الجمهور، ومكرسين لنوع من ثقافة الحوار العنيف، فأي تسامح وآداب يمكن ان ننتظرها في مجتمعات يسيطر علىها هذه الانواع من الإعلام؟!
وبات لكل صاحب وجهة نظر، ان هذا اللون الإعلامي لا يعرف سوى نشر الفوضى بلغة الاثارة تماما كالصحافة الصفراء قديما لتحقيق مكاسب وقتية وتصفية الحسابات بين الخصوم على حساب مجتمع بأسره، و التوظيف في نشر الأفكار الطائفية والمذهبية لتفتيت شعوب المنطقة وتناحرهم.
ناهيك عن التقسيط السياسي لمن يستحق ولمن من لا يستحق و استخدام الإعلام وسيله للانتقام و نشر الشائعات و الروايات الكاذبة و الدبلجات للصور و الأخبار الكاذبة و تركيب الفيديوهات للتعتيم على الحقيقة و إلقاء الضوء على الأكاذيب ليتسأوى المجرم مع البريء فيقوم المجرم بتشويه صورة البريء حتى يفقده مصداقيته و جمهوره و يشتت الجمهور من حوله حتى لا تتم مقارنة الجيد بالسيئ و يستسلم الشعب كونه لا يوجد على الساحة إلا السيئ فيقبلون بالموجود و الأمر الواقع.
في المقابل، فان هذا اللون الإعلامي يفتقر المهنية الحقيقية ويقدم أنماطا مغلوطة لفهم الحريات ضربت القيم العليا في مقتل، بينما وقف الإعلام الحكومي عاجزاً عن التصدي لوسائل جذب الإعلام الخاص لقلة موارده من جانب أو لعدم توافر الحرية اللازمة لتقديم معالجات إعلامية جاذبة للجمهور تتسم بالمصداقية واحترام عقول المشاهدين .
و أصبح لكل حزب قناة و لكل فكر موقع و لكل طائفة صحيفة و لكل دين رجال ليسوا برجال دين و إنما فتوات تتناحر و تنشر الفتن و السب و اللعن و الشتم، فلا يضير ابداً وجود مواقع و قنوات تعبر عن جهة أو فكر معين لصالح الناس و لكن ليس لنشر التفرقة و الانقسامات، فهل الانفتاح الإعلامي كان إيجابيا على حياتنا اليومية الاجتماعية العائلية الأسرية ام كان نقمة غوغائية دمرت كل شيء؟
الإجابة ستكون عندما نقارن المجتمع و الأجيال و الاستقرار قبل 20 عام و الآن، فالإعلام ليس إلا أداة تعتمد نتائجها على كيفية استخدامها.
حسم
إن التشرذم والاقتتال المنتشر بين أبناء الوطن الواحد في أكثر من بلد عربي، استخدمت به المخابرات العالمية سلاح الإعلام بقوة لتقسيم دولنا العربية، والتفتيت الاجتماعي لقيمنا العربية والدينية والأخلاقية الرفيعة جاء أيضا بسلاح الإعلام ، وهو الامر الذي يوجب على الدول العربية مراقبة مصادر التمويل الخارجي لبعض الوسائل الإعلامية الخاصة، ومن يثبت تورطه فيعاقب فورا ليكون عبرة لغيره.
أما المؤسسات الإعلامية التشريعية في عالمنا العربي فهي مطالبة بسرعة تشريع القوانين الإعلامية والصحافة التي توفر الضوابط المهنية التي تحفظ المجتمع من التدني الاخلاقي والحضاري ليتحول العمل الإعلامي كما كان، بدلا من أن تعمل على تدمير الهوية العربية بداخل أطفالنا ويخلق لنا جيلا لا يشبه العرب بل مسخ ليس له روح.
وفي المقابل، فانه ينبغي تحفيز أية وسيلة إعلام خاص تكرّس للحفاظ على قيمة الوطن، وتكرس برامجها لتشكيل الوعي ونشر القيم المعرفية والثقافية والأخلاقية والفنية الراقية التي ترتقي بالإنسان بعيداً عن أي ابتذال أو عنف، وتحفز الشباب على العمل والعلم معاً للمستقبل الواعد بالخير .