الاثنين، 21 مارس 2016

ولادة وابن زيدون ..

ولادة وابن زيدون ..




عندما تحب المرأة فإن مشاعرها تفيض كالة عودٍ تعزف بأرقِّ الألحان على قلب المحبوب، فتفجر مشاعره الجياشة وتوقظ نبضات قلبه بالرقة أحيانا، وبالعنف الطاغي من نظرة عينٍ ملهمةٍ أحيانا أخرى، وقاتلة أحيانا ثالثة.

نظرةٍ من قلب محبة عاشقة تبدو وكأنها محيط تثور مياهه في قلبه ، تطلق العنان لجوارحه فتحلق في السماء كطائرٍ يرفرف بين الغصون يمنحها شوقا وتحنانا أبديا، ويغرد بأعذب الألحان على أنغام الهوي العذري البريء ، لكن عندما يهبط الطائر من تحليقه ليحتسي كأسا من الهوى يقع في شراك الغيرة، وربما خوف الفراق أمام أي حادثة.

فما بالنا، إذا كان هذا الحب بقلب شاعرين، فالشاعر هو ملك الإحساس ومفجر المشاعر ومحيي نبضات العشاق، والشوق بين الشعراء جمرة مستعرة دائما، والفراق أَكوى من لهيب النار.

هكذا كان شأن قصة عشقٍ خالدةٍ سجلها التاريخ الإنساني وحفظتها متون الشعر العربي وعيونه بين الأميرة الشاعرة ولادة بنت المستكفي والشاعر ابن زيدون بالأندلس، الذي كتب نونِيته الرائعة من وحي إلهامها، والتي يقول فيها:

أضحى التنائي بديلا عنْ تدانينَا  **  وَنابَ عنْ طيبِ لقيانا تجافينا

فولادة ثاني من أنشأت مجلسا أدبيا بقرطبة يفد إليه المبدعون والشعراء، بعد سكينة بنت الإمام الحسين في المدينة المنورة، وطالت ولادة شائعات كثيرة؛ بسبب جرأتها وشجاعتها وتمتعها بآفاقٍ عقليةٍ وروحيةٍ رحبةٍ وصدقها ، ورغم ذلك حرصت على أن تبين ذاتها الإنسانية بالشعر ضد من يجرؤ على النيل منها بقولها في هذه الأبيات:

إني وإنْ نظرَ الأنامُ لبهجتي ** كظباءِ مكة صيدُهن حرامُ

يحسبنَ من لينِ الكلامِ فَوَاحشا ** ويصدهن عن الخنا الإسلامُ

وكانت ولادة من أجرأ المبدِعات العربيات في البوح بمشاعرهنَّ في الحب رغم التحديات ، فعندما التقت ابنَ زيدون في مجلسها الأدبي أحبته وصرحت في شعرها بهذا العشق الذي يمتلك فؤادها، بينما هام بها ابن زيدون وفاض في حبها شعرا، وجعلته من أرق الشعراء وجدا وحبا وصار بإلهام ولادة من أشهر الشعراء في زمانه وحتى يومنا الراهن.

وبين الأجواء السياسية وتأثيراتها، وظهور غرماء في الحب بين العاشقين، نافس الوزير ابنُ عبدوس ابنَ زيدون على قلب ولادة، ومالت جاريةٌ لقلب ابن زيدون، فغارت ولادة، وتحوَّلت قصة غرامهما إلى مأساة أفضت إلى الفراق ولوعته.

فها هي ولادة تعبر عن جرح قلبها من صد الحبيب لها، فتجتاحها الأشواق لابن زيدون قائلةً:

لحاظكم تجرحنَا في الحشا ** ولحظنَا يجرحكم في الخدودْ

جرحٌ بجرحٍ فاجعلوا ذا بذا ** فما الذي أَوْحب جرحَ الصدودْ

ويجرِف ولادة بحرُ الحنين إلى الحبيب ، وكيف أنها لم تعد تطيق كمحبة ولهانةٍ الصبرَ على غيابه قائلةً:

وَدَّعَ الصبرَ محبٌّ ودّعكْ ** ذائعٌ منْ سرهِ ما استودَعكْ

يقرَعُ السن على أنْ لمْ يكنْ ** زَادَ في تلكَ الخطا، إذْ شيعكْ

يا أَخَا البدْرِ سنَاءً وسنى ** حفظ اللهُ زمانا أطلعك

إنْ يطلْ، بعدكَ، ليلي، فلَكمْ ** بِت أشكو قصرَ الليل معكْ!

ولما أضجَّ السهرُ مضجعها، وأصابتها لوعةُ المشتاق من الفراق كتبت لابن زيدون تشكو جمرَ الشوق قائلةً:

أَلا هل لنا من بعد هذا التفرق ** سبيل يشكو فيشكو كل صب بما لقي 

وَقد كنتُ أوقاتَ التزاو في الشتا ** أَبيتُ على جمرٍ من الشوقِ محرِقِ

فَكَيفَ وقد أَمسيتُ في حالِ قطعةٍ **    لَقد عجلَ المقدُورُ ما كنتُ أتقي

تمرُّ الليالي لا أَرَى البينَ ينقَضي **  وَلا الصبرَ من رقِّ التشوق معتقي

سقى اللهُ أَرْضا قد غدت لكَ منزلا ** بكلِّ سكوب هاطل الوبل مغدقِ

لم يجمع القدَر بين المحبين في زواجٍ ماديٍّ ملموسٍ، لكنه جمع بينهما في عناقٍ روحيٍّ أبديٍّ وخالدٍ تغنى ويتغني به كل عاشق في زمانه.

الأحد، 20 مارس 2016

وشاح أمي

وشاح أمي


تراثنا غني بآداب تتناول الأم، وتؤكد مكانتها السامية، وان لم اضف في هذا المضمار، لكنني  أكتشف جديدًا يربطني بأمي . فعندما رأيت دموعها؛ كأنني أسافر لأول مرة؛ نادتني بعدما غادرتها بخطوات لتعطيني "شالًا" خفيفًا سَحَبَته للتو من على رقبتها، لفته حول رقبتي تلقائيا  فأحسست بدفءٍ غير مسبوق لا يتناسب أبدًا مع نوع وحجم الشال الرقيق ؛ ولنسمه وشاحا.

من يملك أُمًا مثل أمي؛ هكذا حدثت نفسي، وطوال طريقي من المنزل لم تفارقني أمي؛ فبينما ظل جسدها في المنزل لازمتني بوشاحها, بسمو روحها وعطر رائحتها ودفء حنانها.

وفي المطار المزدحم بالبشر  لم أحس بهم؛ لربما رأتهم عيناي لكن ظلت أحاسيسي  بكليتها مع هذا الوشاح السحري، لم لا؟ وهو جاء لتوه من عنق أمي إلَيَّ، لطالما تعلقت فيه طلبًا للأمن والأمان، وسعيًا للدفء والسمو الروحي؛ كان ذلك في سنواتي الأولى، وها هو الوشاح يعيديني إليها بقوة واندفاع .لكم حلمت في صغري بشعر كشعرها المنسدل على كتفيها .و عيونًا في صفاء وعمق عيونها .

ولكني لم اتوقع ابدا أن نتطابق في السمات والصفات، فإذا ما شهد أحد بصلابتي عدت إلى صلابة أمي في مواجهة أعقد الصعاب واقساها، وإذا ما وجدتني أتعامل بحزم وثقة تذكرت  أمي كيف  تواجه المواقف بعدما استُشهد والدي تاركًا سبع بنات يطلبن حزم الأب .

واذا ما لمس شخص ما تواضعًا في أحد أفعالي وجدتها غرست فينا تواضعًا ظَلَّ راسخًا خاصة مع الأضعف والأقل شأنا .
وإذا حاولت استرجاع معلومة، أو بيت من الشعر، أو آية حضر أمامي وجهها المشع بنور الإيمان الحق، مسترجعة تشجيعها الدائم للتزود بالعلم وإرشادي إلى منهل الثقافة .
وها هو الوشاح يحيط بي يُذكِّرني أنني ورثت دفء المشاعر، وفيضًا من الحساسية والرومانسية، عندما أتذكر أنني فعلت ما فَعلته معي أمي قبل أسبوع من هذا الموقف، وقد كنت وقتها أبحث عن جذور تصرفي التلقائي هذا، فلا عجب؛ إنها أمي أعطتني من روحها حين ولدتني، فكيف لا وأنا أحاكي الطيور مثلها؟ وأغني للأزهار، وأكتب الشعر عن الأرض، وأسعد بالطبيعة، وأزرع الأشجار؟ 

في صالة الانتظار بينما أفتح شنطة يدي وجدت شوكولاته أحبها، يا الله .. متى؟ وكيف وضعتها؟!.. تذكرت شنطتي المدرسية التي كانت تملأها أمي بطيبات من يديها، وهي تلاحقني بكوب  الحليب الساخن الذي كان بمثابة العقاب لي قبل أن أصعد السيارة، وأذهب للمدرسة.
ربتت على كتفي موظفة الصالة لتخرجني من دموعي ، الطائرة على وشك الإقلاع، وبحركة لا إرادية وجدتني أتلمس الوشاح؛ ربما لأستمد منه قوة تحملني الى الطائرة، وطاقة روحية تعينني على ألم الفراق . ساعة هي المدة التي تستغرقها الطائرة؛ لكنها مرت في لحظة هي ذكرى رحلتي الأولى في صحبة أمي . 

منقوشة في ذاكرتي صوتًا وصورة؛ كل الرحلات التي صاحبتها إلى العواصم التي أضحت خواتم في إصبعي؛ لكنها تفقد الكثير من أَلَقِها وبهجتها دون صحبة أمي .
هل كان أبو القاسم الشابي يصِفُك:

عذبةٌ  أنتِ  كالطفولة  كالأحلام   كاللحنِ   كالصباح   الجديدِ

كالسماء  الضحوكِ  كالليلةِ   القمراءِ   كالوردِ  كابتسامِ   الوليدِ


يا   لها    من    وداعـةٍ    وجَمالٍ     وشبابٍ    منعّمٍ    أملودِ


يا لَهَا من  طهارةٍ   تبعثُ  التقديسَ
   في   مهجة   الشقيّ   العنيد